أبو فضلان الأنصاري
يبدو أن سؤال "من هو رئيس الجامعة؟" بسيط في ظاهره، لكنه في الحقيقة يهزّ أسس فهمنا للتعليم العالي. هل رئيس الجامعة هو مجرد مدير إداري ينظم شؤون المؤسسة كما يفعل مدير شركة؟ هل هو حلقة من حلقات الجهاز البيروقراطي للدولة تربط بين الحرم الجامعي والوزارة؟ أم أنه "رئيس العقلاء" (رئيس العقلاء) — زعيم جماعة علمية تُدعى "الجماعة الأكاديمية"، تعيش على التفكير، والبحث، وإنتاج الحضارة، لا على المراسيم الرسمية؟
في الممارسة اليومية، غالبًا ما يتحول منصب رئيس الجامعة إلى وظيفة إدارية عليا، ينشغل فيها ببناء المباني، وإعداد التقارير، والاستجابة لتعليمات الوزارة، وتلبية متطلبات الاعتماد الأكاديمي. ومع تسارع تيار البيروقراطية، يبتعد رئيس الجامعة أكثر فأكثر عن جوهره كقائد فكري. في كثير من الأحيان، يكون صوته الأعلى في الحديث عن نسب الإنفاق وتنفيذ المشاريع، لا عن الرؤية المعرفية للمؤسسة.
أشار ماكس فيبر في تحليله الشهير للبيروقراطية الحديثة إلى أن هذا النظام ينتج الكفاءة من خلال الطاعة، والتسلسل الهرمي، والإجراءات القانونية. لكن هذا النظام نفسه، كما يصفه، يتحول إلى "قفص حديدي" يقيد حرية الفرد. في هذا السياق، يُقدَّر رئيس الجامعة إذا خضع للتنظيمات، لا إذا تمرّد من أجل المبادئ الأكاديمية. هكذا، قد يصبح القائد الأكاديمي بارعًا في الإدارة، لكنه فاقد الاتجاه الأخلاقي والمعرفي.
ومع ذلك، فإن التاريخ والتقاليد الفكرية لا ترى في رئيس الجامعة مجرد بيروقراطي. في التراث العلمي الإسلامي، حذّر ابن خلدون من أن اقتراب العلماء وقادة المؤسسات المعرفية من السلطان يضعف العلم ويُفقده حدّته النقدية. فالعلم، كما يرى، لا يعيش إلا إذا استقل عن السلطة. القائد الأكاديمي هو حارس استقلال العقل، لا مجرد خادم للسياسات.
ويوافقه في ذلك إدوارد سعيد، المفكر الحديث الذي شدد على أن المفكر الحقيقي يجب أن "يقول الحقيقة في وجه السلطة". فمهمة رئيس الجامعة لا تقتصر على الحفاظ على استقرار الحرم الجامعي، بل عليه أن يحميه من تدخلات السلطة التي تخنق حرية الفكر. وعندما تواجه الجامعة ضغوطًا سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية، يجب أن يكون رئيسها في مقدمة الدفاع لا في خلفية الصمت.
رئيس الجامعة ليس مجرد موقّع على الأوراق، أو حامل للموازنات، أو منسق للمشاريع. بل يجب أن يكون حارسًا لنار الحرية الأكاديمية. يجب أن يكون ملاذًا يُلجأ إليه حين تختلط الحقائق، ودرعًا يُحتمي به حين يُستهدف المفكرون. فالحرية الأكاديمية ليست ترفًا، بل هي قلب الجامعة. بدونها، تصبح الجامعة آلة بيروقراطية خاوية من الروح.
بل وأكثر من ذلك، يجب أن يكون رئيس الجامعة مولدًا للطاقة الفكرية في الحرم. لا مجرد منظم للأنشطة، بل محفزًا للأفكار، وباعثًا للبحث، وموقظًا للوعي. في الفصول الدراسية، والمنتديات، والمجالس، ينبغي أن يكون هو البوصلة التي توجه التفكير نحو الأعمق، لا نحو الأسهل.
وهنا يظهر التمييز الجوهري بين "رئيس مكتب للتعليم العالي" و"رئيس العقلاء". الأول وظيفة إدارية تقوم على التنفيذ، وإرسال التقارير، وتنظيم الملفات. يعيش ضمن النظام، ويؤمن بالروتين. قد يكون فعالاً، لكنه لا يضيف قيمة فكرية. أما الثاني، فهو قائد أخلاقي وفكري، يقود لا بالسلطة بل بالفكر، لا بالمراسيم بل بالمثال. هو من يصنع المعنى، ويمنح الجامعة وجهتها الحضارية.
وقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "اعرف الحق تعرف أهله". وهي قاعدة جوهرية في الفضاء الأكاديمي: أن لا يُقاس القول بقائله، بل تُقاس الفكرة بقيمتها. فرئيس الجامعة لا ينبغي أن يحكم على النقد بناءً على من قاله، بل على ضوء الحقيقة التي يحمله. إنه ليس مجرد حارس للنظام، بل حارس للعقل.
لكن هذا الطريق ليس سهلاً. فقد نبّهت هانا أرندت إلى أن التفكير في العصر الحديث فعلٌ صامت ووحيد، يتطلب شجاعة السير دون عكاز. فالرئيس الذي يختار أن يكون "رئيس العقلاء" يجب أن يكون مستعدًا لأن يكون صوتًا غير مريح للسلطة، لكنه ضروري للتاريخ.
إن سؤال "من هو رئيس الجامعة؟" ليس سؤالًا تنظيميًا، بل سؤال قيم. هل نريد رئيسًا يدير مؤسسة، أم قائدًا يقود حضارة تفكير؟ هل نكتفي بمن يحقق الأهداف الرقمية، أم نبحث عمّن يُحيي النقاشات الحية؟
ربما، في لحظة هدوء في مكتبه المزدحم، يسأل الرئيس نفسه:
هل أدير مؤسسة... أم أقود أمة من المفكرين؟
فالإجابة عن هذا السؤال وحدها، كفيلة بأن تحدد مصير الجامعة، وربما مصير أمة بأكملها.
No comments:
Post a Comment